الكتابة بين الحذف والإحياء- ترددات النفس وإعادة التدوير

المؤلف: عبده خال09.24.2025
الكتابة بين الحذف والإحياء- ترددات النفس وإعادة التدوير

الصديق العزيز الدكتور أحمد العرفج، يسعى إلى ترسيخ فكرة مفادها أن الكتابة هي جوهر الاختزال والإيجاز، وهي مقولة ذاعت وانتشرت بين صفوف الأدباء والمفكرين، وأصبحت محوراً للتحدي والتركيز على التكثيف والتخلص من الإسهاب.

وقد استعرض الزميل أحمد العرفج آراء ثلة من الكتاب الذين يميلون إلى الحذف والاختصار، وأورد مقتطفات من وجهات نظرهم حول هذا الموضوع (وقد حذفها دون تدقيق أو تمحيص)، وقد استشهد برأيي في هذا المضمار، ويبدو أنني قد شكلت عائقاً أمام تبنيه الكامل لفكرة الحذف، إذ أنني أميل إلى نهج علماء الحديث الذين اقتدوا بمقولة ابن معين الشهيرة: «إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش»، وهي القاعدة السديدة التي أسترشد بها في كتاباتي، معللاً ذلك بأن الكتابة هي تعبير عن الذات، فإذا لم تكن الكتابة انعكاساً للجوهر الحقيقي، فإنني ألجأ إلى الحذف قبل أن تستولي عليّ الحروف والكلمات وتطغى على المعنى المقصود، إلا أنه ليس حذفا قاطعا أو إزالة تامة.. فأحيانا يكون الحذف ضربا من ضروب الطمس والإخفاء، فكل ما خطته يمينك هو جزء لا يتجزأ منك، ولكن قد يعتريه بعض النقص أو الشوائب؛ لذلك، أمتلك قنوات عديدة أضع فيها ما حذفته، أملا في أن أجد في المستقبل القريب أو البعيد في هذا المحذوف شيئا يعبر عني، فأقوم بإعادة استخدامه وتوظيفه في كتابة أخرى.

وقد تراءى لي من خلال هذه التجربة أن للنفس البشرية أطيافا وتدرجات، تحضر وتتجلى عندما تتصلب شرايين الكتابة وتفقد رونقها، فتعيد إليها الحياة والبهجة مرة أخرى.

وأي عبارة أو جملة تنطلق من أعماقك، لا تسمح لها بالاندثار أو الزوال، بل امنحها فرصة جديدة للحياة، وحتى إن لم تتواءم مع مسارك الروائي الحالي، فاحتفظ بها في عليين، وفي غضون فترة زمنية معينة، قد أقوم بإحيائها من جديد، فليس ثمة جملة ميتة بشكل قاطع، بل لكل جملة أوقات وأزمنة خاصة بها تتألق فيها وتزدهر.

إن الحذف ما هو إلا ضرب من ضروب التخلي الظاهري عن جزء من ذاتك، فأقوم بحذفه في سياق معين، ثم إحيائه واستعادته في سياق آخر مغاير.

إن فكرة الحذف النهائي والجذري هي بمثابة خيانة للنفَس الأول الذي منحك الإلهام والقدرة على التعبير.. هناك لعبة بارعة في عالم الكتابة، تعلمت كيف أسبق الزمن وأغالبه، وأوهمه بأنني سأقوم بالحذف، ولكنني في حقيقة الأمر لا أفعل ذلك، فأنا أحذفها من رواية ما، ثم أعيد إحياء هذا المحذوف ليصبح نواة وجذرا أساسيا في رواية أخرى.

أنا لا أتجنى على نفسي التي تغدق عليّ من فيض ذاتها وتمنحني شرارة الإبداع كلما هممت بالكتابة، فهي تهبني الكلمات والصور والأساليب والمداخل والمخارج الكتابية، فإذا كان ما كتبته يشوبه بعض الخلل أو التعقيد في العمل الروائي الذي أنا منهمك فيه، فإنني ألجأ إلى تنحية ما أردت حذفه مؤقتاً، ثم أعود إليه في عمل آخر يحمل فكراً جديداً.

إن النفس البشرية تحوم وتجول في شتى الأزمنة والأمكنة، فكل ما تجود به عليك أثناء الكتابة من عصارة الفكر والإبداع، سيأتي وقته المناسب، فربما توقفت أو نضبت في فترة معينة، ولكنك سوف تجد معيناً وغنى في فترة لاحقة من خلال هذا الحذف المؤقت.

فأنا أضع كل ما أكتبه في قوالب وجداول أو قنوات موازية لمسيرتي الكتابية، ثم أعود إليها لاستلهامها وإحيائها في طور آخر من أطوار الكتابة.

ليس هناك موت أو فناء، بل كل شيء ينبض بالحياة في زمن ما، ويتجمد أو يسكن في زمن آخر.

ليس لدي مكان لليأس أو العدم، بل حياة متجددة تنبعث من الهياكل الجامدة أو المتصلبة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة